يتكرر كثيرًا في بعض الأحاديث والكتب والمنشورات على وسائل التواصل ما يُسمّى “لعنة الوعي”، وكأن الإدراك العميق للحياة والمجتمع والسياسة والنفس لا يورث سوى الحزن والتعب. تكررت هذه الفكرة حتى صدّقها البعض، وظنوا أن الجهل راحة، وأن الغفلة نعمة، وأن الواعي محكوم عليه بالشقاء. وحتى على وسائل التواصل، انتشرت هذه العبارات حتى ترسّخت في أذهان كثيرين، وأوحت لهم أنها حقيقة مطلقة لا تُراجع. لكن ما يغيب عن الذهن أن النفس بطبيعتها تميل لتضخيم الألم وتجميل الغفلة، فتُقنع صاحبها بأن العمى راحة، لا حبًا في الحقيقة بل هروبًا من ثقلها؛ وكأنها، في لحظة ضعف، تتحالف مع الوهم ضد الوعي.

لكن هذا الانطباع خاطئ من جذوره. الوعي ليس لعنة، بل هو أول الطريق نحو الحكمة، ونحو التحرر الحقيقي. قال الله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ( البقرة: 269). والحكمة لا تُؤتى إلا لمن وعى، وتأمل، وخرج من ضيق العادة إلى سعة الفهم. الوعي هو القدرة على رؤية ما وراء السطح، على التساؤل بدل التلقّي، وعلى المساءلة بدل الانقياد. هو أن تخرج من التكرار الأعمى، إلى الاختيار الواعي. ومن هذا الباب، فهو نعمة لا يطيقها إلا الصادقون. وأولو الألباب هم أصحاب العقول الصافية المتجردة، الذين لا تكتفي عقولهم بالتفكير الظاهري، بل تعمل ببصيرة، تبصر المعنى خلف الحدث، وتفرّق بين الصوت والصدى، بين الأصل والسطح. فالبصيرة أداة القلب كما أن البصر أداة العين، وهي التي تفتح للإنسان باب الفهم العميق، والتمييز بين الحق والزيف.

ما يُسمّيه البعض “حزن الوعي” ليس حزنًا حقيقيًا نابعًا من الفهم، بل هو صدمة أولى، طبيعية، حين ينكشف الوهم الذي عاش فيه الإنسان طويلًا. يشبه الأمر من ظنّ أن البحر ساكن، ثم غاص قليلًا فاكتشف التيارات تحته. لكنها ليست نهاية الطمأنينة، بل بدايتها الحقيقية. فإن واصل الغوص، تعلّم كيف يوازن نفسه في العمق، وكيف ينجو، بل وكيف يُنقذ غيره من الغرق في السطح.

انظر من حولك: كم من إنسان يكرّر نفس الأخطاء لأنه لا يريد أن يرى؟ كم من الأشخاص تنهار ثقتهم بأنفسهم بسبب قلة وعيهم النفسي في ثقافة سطحية أو معاملات غير صادقة؟ كم من شاب سقط ضحية خطابات دينية متشددة لا أصل لها، أو دعاية استهلاكية، لأنه لم يتعلم أن يسأل ماذا قيل؟ وهل هو حق؟ وما هو وجه الصواب فيه؟ الغفلة ليست بريئة كما نتصور، بل لها كُلفة باهظة على النفس والحياة والمجتمع.

ولذلك، لم يكن الجهل في القرآن موضع تعاطف، بل جاء في سياق الذم والتحذير. يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179). تأمل: الأدوات موجودة القلب، العين، الأذن ،لكنهم لا يستخدمونها كما أراد الله. ولهذا لم يكونوا فقط كالأنعام، بل وصفهم بأنهم أضلّ، لأن البهائم غير مكلّفة، أما الإنسان فمُحاسب على ما مُنح من عقل وبصيرة.

ويظن بعض الناس أن الوعي يجلب الوحدة. لكن الحقيقة أن العزلة لا يصنعها الفهم، بل السكوت عن تبعاته. من يعي، ثم يسكت، ثم يرفض أن يتحرك، هو من يشعر بالتمزق. أما من ترجم وعيه إلى سلوك، فقد وجد طريقًا جديدًا للصلة بالعالم، أكثر صدقًا وإن قلّ فيه الرفاق. ولهذا قال تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران: 110).فالوعي ليس انسحابًا، بل تحمّل، ليس حزنًا، بل إدراك ومسؤولية.

أما من يتغنى بالجهل ويظن أنه راحة، فهو كمن ينام في بيت ينهار ولا يريد أن يستيقظ. الجهل راحة مؤقتة، لكنه يُكلّفك عمرك، ويُفقدك فرص الإصلاح والتغيير والنضج. أما الوعي، فمتعب في أوله، لكنه يثمر طمأنينة حقيقية، نابعة من الفهم، لا من البلادة.

في الختام، الوعي ليس لعنة كما يُشاع، بل هو أمانة، وهبة من الله لا تُعطى عبثًا. هو اختبار للقلوب الحية، وامتحان للعقول الباحثة عن الحقيقة. من وُهب الوعي، فقد مُنح بابًا إلى الحكمة، وطريقًا إلى المعنى، ومفتاحًا لفهم الحياة كما هي، لا كما تُروَّج.

الوعي لا يُثقل النفس عبثًا، بل يهيئها لمراتب أعلى في الفهم والعمل، ويحرّرها من التكرار الأعمى، ويصونها من العيش في دوائر العادة والغفلة. قد يكون طريقه موحشًا في أوله، لكنه عامر بالنور في نهايته. فيه تكمن مسؤوليتك، نعم، لكنه أيضًا الشرط الأول لحياةٍ ذات مغزى.

فلا تلعن وعيك، ولا تخش نتائجه، بل كن أهلًا له، واسعَ لأن تحمله بشرف. استعن بالله عليه، واطلب النور لا العمى، والعمق لا القشرة، والصدق لا التقليد.فهو النور الذي، إن وُهب لك، فلا شيء يعدله، ولا شيء يُعوّض عنه:﴿…وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور: 40).