ما القلم إلا امتداد للروح، وترجمان خفيّ لما يسكن أعماق الفكر. ليس مجرد أداة تُمسك، بل هو كائن رمزي أقسم به الله في قوله تعالى : “ن ۚ والقلم وما يسطرون”. ففي هذا القسم، سرّ عظيم: أن الكتابة ليست فعلًا عابرًا، بل شهادة على الوجود، ودليل على أن الفكر لا يموت ما دام القلم ينبض.
ها أنا أعود إلى ذاتي، إلى تلك الروح التي كانت الكتابة فيها مرآةً للعقل، ونبضًا للحكمة، وبوابةً لفهم الحياة لا مجرد كلمات تُسطر. كانت الكتابة لي أكثر من علاج؛ كانت نافذةً أطلّ منها على أعماق ذاتي، ومجالًا لتأمل الصراعات الخفية بين العقل والشعور. كتبت الشعر حين كان الشعور عارمًا، والمقال حين كانت الفكرة تطلب أن تُولد.
ولكن بعد مقالي الأخير “فِكر حجر الفلاسفة”، دخلت في صمتٍ لم أعهده، وغابت عني تلك القدرة على استدعاء الحكم، كأنها أوراق تناثرت في مهبّ النسيان. صار استحضار المعاني التي تعلمتها من الكتب، ومن أحاديث الأجداد، أو حتى من زخم هذا العصر الرقمي، أمرًا صعبًا؛ خاصة ذلك العمق الفلسفي الذي كان يضبط ميزان عقلي، ويمنحه ثباتًا في مواجهة التيه.
لا حاجة لتعداد فضائل الكتابة، فالقلم قد شُرّف بالقَسَم، ويكفيه ذلك. إن الكتابة ليست فعلًا للتسلية، بل ضربٌ من النجاة، وبذرة تثمر ولو بعد حين. نكتب لنتذكّر، لنتطهّر، لنوثّق، ولنترك أثرًا في الزمن. وكما قال الشاعر: “سَيَنطِقُ عَنكَ عِلمُكَ في نَدِيٍّ، ويُكتَبُ عَنكَ يَوماً إن كَتَبتا”
أي أن ما تكتبه اليوم قد لا يبقى حبيس دفترك، بل قد يُتلى في مجالس، ويُدرّس في محافل، ويتناقله الناس جيلًا بعد جيل. وهنا تتجلى قيمة الكتابة في ضوء قول النبي ﷺ:
“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له.”
ولذلك أريد من قلمي أن يكون شاهدًا لي، لا علي، وأثرًا ممتدًا لا يزول، وعلمًا ينتفع به في حياتي وبعد رحيلي.
واليوم، بعد مرارة التجربة، وجفاف المعنى، ينهض في داخلي ذاك الشوق القديم، وتنبض يدي من جديد. لا لأكتب فقط، بل لأُبصر وأُبصّر. أعود، لا بلهفة العابر، بل بعزيمة الحكيم الذي يرى في الكلمة نورًا، وفي القلم سفينةً تمخر عباب الوعي.
في الأول من مايو، أُعلن بعزمي: لقد أحييت قلمي.
وفق الله وسدد خطاك وأنار دربك ورزقك الرضا والقناعة والسعادة وحسن البصيرة