من أكثر الأسئلة التي شغلت الفكر الإنساني على مرّ العصور هو سؤال الأصل: من أين جاء الإنسان؟ ولماذا جاء؟ وما هدفه في هذا الوجود؟ كثير من الفلاسفة الغربيين سعوا للإجابة عن هذا السؤال بالاعتماد على أدوات العقل وحدها، في انفصال شبه تام عن الوحي والدين. غير أن الجواب، الذي استعصى على التحليل العقلي وحده، يظهر ببساطة ووضوح في أول آيات من سورة الإنسان، وهي سورة تكاد تكون في مجملها تأملًا في أصل نشأة الإنسان، وإمداده بوسائل الإدراك، ومصيره.
ففي بداية سورة الإنسان يُطرح سؤال عميق: ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾، والاستفهام في هذه الآية هو استفهام تقريري يراد به التأمل. لقد مرّ على الإنسان زمن لم يكن فيه شيئًا يُذكر، لا اسم، لا جسد، لا أثر. كان عدمًا محضًا. وبهذا تُذكّرنا الآية بحقيقة الإنسان الأولى: أنه لم يوجد من ذاته، بل أُوجد. وأنه كان لا شيء، ثم صار كائنًا واعيًا، مفكرًا، قادرًا على التساؤل والبحث. وهنا يُستدعى العقل كأداة تأمل، لا كمجرد آلة تحليل.
وفي الآية التي تليها: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ﴾، يتضح أصل الإنسان المادي الصغير، الذي لا يملك من القوة شيئًا، ولكن وُهب العقل والروح، ليكون موضع ابتلاء واختبار. فالخلق هنا ليس عبثًا، بل لحكمة، لأن الابتلاء غاية، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾.
ثم تأتي الآية التالية لتُبرز البعد الأخلاقي والاختياري للوجود الإنساني: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾. فالهداية هنا بيّنة، والإنسان مسؤول عن قراره. هو يعرف الطريق، ويبقى عليه أن يسلكه أو يعرض عنه. وقد وُهب العقل ليكون دليلًا، لا ليكون إلهًا. وكما قال الغزالي: “العقل أصل في التكليف، ولولاه لما صحّ أمر ولا نهي.”
ثم تؤكد السورة لاحقًا أن هذا الاختيار لا ينفكّ عن مشيئة الله: ﴿إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلٗا(٢٩) وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ هذا ليس نفيًا لحرية الإنسان، بل هو تأكيد لحقيقة التوازن بين الإرادة الإنسانية والمشيئة الإلهية العليا، التي لا تَمنع الإنسان من السعي، بل تبارك سعيه إذا كان مخلصًا.
وفي آيات أخرى من سور القرآن، نجد تكرار تذكير الله بطبيعة الإنسان المتقلبة والضعيفة: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء: 11)، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ (العاديات: 6)، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ (المعارج: 19). وكأن الوحي يعلمنا أن العقل الذي لا يُربى بالإيمان، قد يتحول إلى أداة لهدم صاحبه، لا إلى وسيلة نجاته.
ولذلك نجد في مواضع كثيرة أن الانتفاع بالقرآن مشروط بصفاء القلب ويقظة البصيرة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37). فالعقل وحده، دون القلب الحي، لا يُثمر حقًا.
وهكذا، ترسم سورة الإنسان، ومعها آيات كثيرة من القرآن، صورة متكاملة للإنسان: كائن خُلق من ضعف، وأُعطي عقلًا وهُدى، ثم وُضع في اختبار بين طريقين، فإما أن يشكر أو يكفر. هو ليس مجرد مادة مفكرة، بل روحٌ ممتحَنة. والعقل وسيلة، وليس غاية. والحق، لا يُدرك بالعقل وحده، بل بالعقل إذا انقاد لنور الوحي.
وفي ختام هذا التأمل، لا يسعني إلا أن أًسِف على تلك الجهود الفلسفية والبحوثات الأكاديمية العميقة التي أُنهكت في محاولة فهم الإنسان وماهيته ومصيره، وهي تُصرّ على تجاهل القرآن والسنة، وكأن الحق يُولد من العقل وحده، لا من النور الذي أنزله الله لهداية البشر.
إن القرآن ليس كتاب عبادة فقط، بل هو أصل العلوم، وأصل البحوث، وأصل الفهم العميق للوجود والغاية. قال تعالى:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89)،﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38)، ﴿إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 9). بل إن الله جعل من الاستدلال بالكون والإنسان سبيلًا للبرهنة على صدق هذا الكتاب، فقال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت: 53). فهل يُعقل أن نُقصي كتابًا هذه صفته، ونسير في ظلمات العقل المحدود وحده؟. وا أسفًا على العقول التي استكبرت أن تبدأ من النور، فظلت تتخبط في الظلام. ولو أن العلماء والفلاسفة جعلوا القرآن هو البداية، لا النهاية، لانكشفت لهم حقائق الوجود بلا عناء، ولسجدت عقولهم قبل أرواحهم لله، الذي بيده النور والعقل والحق.